قراءة نفسية يسيرة عن الثبات والنمو الشخصي
من قول "أنا هكذا" إلى سؤال "هل يمكنني أن أتغير؟"
يتداول كثير من الناس عبارات مثل: "هذه شخصيتي ولن أتغير!" أو "أنا عصبي بطبعي!".
مع أن هذه العبارات قد تبدو توصيفية أو تبريرية، فإنها تنطوي على افتراض نفسي عميق: أن الشخصية ثابتة، وغير قابلة للتبديل.
لكن ما تُبرزه الدراسات النفسية المعاصرة هو أن الشخصية -مع استقرارها النسبي- تبقى قابلة للتطوير.
ويمكن النظر إليها كإطار مرن يتشكل ويتوسع كلما نضجنا، وتراكمت تجاربنا، وتعزز وعينا الذاتي.
ما المقصود بالشخصية؟
في علم النفس، تُعرف الشخصية بأنها نمط مستقر نسبيًّا من السمات النفسية التي تنعكس في تفكير الفرد، وعواطفه، وسلوكياته عبر الزمن.
وتُقاس الشخصية غالبًا باستخدام نموذج العوامل الخمسة الكبرى، ويشمل:
• الانبساط: الميل إلى الاندماج الاجتماعي والانفتاح على التواصل.
• الضمير الحي (Conscientiousness): التنظيم، والانضباط، وتحمل المسؤولية. وتظهر هذه السمة في التزام المواعيد، والدقة، وتأنيب الضمير عند التقصير، ونحو ذلك.
• التوافق: الميل إلى التعاون، وتقديم النية الحسنة، وتجنب الصدام....
• الانفتاح على التجربة: حب المعرفة، وتقبُّل الأفكار الجديدة، والخيال الخصب....
• الاستقرار الانفعالي: مقاومة القلق والتوتر، ويُقابلها العصابية، أي الميل المتكرر إلى القلق والانفعال المفرط.
هذه السمات لا تُقاس بوصفها "موجودة أو غائبة" فقط، بل قد توجَد بدرجات متفاوتة لدى الأفراد.
هل هذه السمات ثابتة حقًّا؟
تشير الدراسات النفسية إلى أن الشخصية تستقر نسبيًّا مع مرور الزمن، خاصة في مرحلة الرشد (Funder, 2024).
لكن هذا لا يعني الجمود؛ إذ يمكن أن تتغير بعض السمات في شدتها أو طريقة تعبيرها.
هذا ما يُعرف في بعض الأدبيات بـ"الاستقرار المرن" (Robins & John, 2021)، أي أن الشخص يحتفظ بميولاته الأساسية، لكنه يطور التعبير عنها تبعًا للتجربة والوعي.
متى تتغير الشخصية؟
تتأثر الشخصية بعدة عوامل تُمكِّن من التغير التدريجي، من أبرزها:
• النضج العمري: إذ تميل بعض السمات (مثل الضمير الحي) إلى التحسن مع التقدم في السن.
• أحداث الحياة الجوهرية: كالأبوة، أو الفقد، أو الانتقال المهني، أو الصدمات.
• العلاج النفسي المنظم: كالعلاج المعرفي السلوكي أو الديناميكي طويل الأمد.
• التأمل الذاتي والمراجعة: حين يعيد الفرد النظر في أنماطه وتكراراته السلوكية.
• السياق الثقافي والاجتماعي: إذ إن للمعايير المجتمعية دورًا في تنظيم التعبير السلوكي. وفي السياق السعودي، على سبيل المثال، قد تؤثر بنية الأسرة الممتدة، أو أدوار النوع الاجتماعي، في نمط انفتاح الفرد أو تحفُّظه.
هل التغير في الشخصية يُفقدنا هويتنا؟
لا.
التغير في الشخصية ليس فقدًا للهوية، بل مؤشرًا على النضج والتكيُّف.
فالهوية النفسية ليست شيئًا جامدًا، بل هي ناشئة من التوازن بين الجوانب الثابتة (كالنمط العام)، والجوانب المرنة (كالاستجابة والمواقف).
إن احتفاظ الشخص بجوهره لا يمنع قدرته على تطوير سلوكياته، وتوسيع خياراته، وتحسين نوعية تواصله مع ذاته والآخرين.
خطوات عملية نحو تطوير الشخصية:
افهم نمطك بصدق: باستخدام أدوات تقييم موثوقة أو مراجعة نفسية مهنية.
افصل بين السمة والسلوك: فالميل إلى العصبية لا يعني بالضرورة الإساءة، بل يتطلب تنظيمًا.
اختر سلوكًا واحدًا لتعديله أسبوعيًّا: كطريقة الرد أو آلية الاعتذار أو إدارة الانفعال.
دوِّن الأنماط المتكررة: فملاحظتها بوعي يساعد على تفكيكها تدريجيًّا.
استعن بتغذية راجعة موثوقة: من شخص يعرفك جيدًا ويقدم ملاحظاته باحترام ودون تحقير.
لماذا يُعد هذا الموضوع مهمًّا في إطار الصحة النفسية المجتمعية؟
لأسباب، أهمها أنه:
• يساعد الأفراد على تقبُّل أنفسهم والتعامل مع اختلافاتهم تعاملًا صحيًّا.
• يُقلل من إطلاق الأحكام القطعية على الآخرين مثل "فلان لا يتغير".
• يُمكِّن الأسر والمعلمين والعاملين في القطاعات النفسية من تطوير مهارات التواصل والدعم.
• يفتح المجال لإدماج مفاهيم الشخصية ضمن برامج الوقاية المدرسية، والتطوير المهني، والإرشاد الأسري.
خاتمة:
الشخصية مرنة.. حين نفهمها فهمًا عميقًا
الشخصية ليست حكمًا نهائيًّا، بل دعوة لفهم الذات، وتوسيع آفاق التفاعل مع الحياة.
وإن إدراكنا لمرونة الشخصية ليس إدراكًا لوصفٍ فقط، بل هو خطوة كبيرة نحو النمو، والتعافي، والاختيار الصحيح.
هذا، ومن جهود المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية من هذا المنطلق: مبادرات الوعي المجتمعي والتمكين النفسي؛ إذ إن التثقيف المجتمعي في هذا الشأن هو خطوة مركزية نحو بيئة نفسية أكثر وعيًا، وشمولًا، واحترامًا لاختلاف الطباع والسلوكيات.